كانت أمي في الرابعة عشرة من عمرها عندما ساقها حظها التعس إلي زواج
غير متكافيء برجل عربي في عمر والدها الذي باعها في سوق النخاسة, وقبض
الثمن ليتزوج بأخري في عمر بناته, أملا في أن ينجب ولدا, يحمل اسمه
ويرث ماله من بعده, ولكنه رحل بعد شهور قليلة تاركا وراءه بناته الخمس
اللاتي كان يتعامل معهن كالعبيد فلم ينل منهن سوي الكراهية ورحلت وراءه
بشهور زوجته( جدتي) ربما حسرة وكمدا.. وهكذا عاشت أمي منذ أيام
طفولتها المبكرة وحتي زواجها ـ أو علي الأصح بيعها ـ ضحية أب أمي جاهل لا
يعترف بأهمية التعليم ولا يقبل بخلفة البنات فرزقه الله بخمس زهرات كانت
أمي أصغرهن وأجملهن علي الاطلاق وسعي جاهدا ـ سامحه الله وغفر له ـ إلي
تزويج بناته لأول طارق ليتخلص من عار خلفة البنات علي حد قوله..
وسرعان
ما افاقت أمي فوجدت نفسها وحيدة سجينة في بلد عربي شقيق لا تعرف فيه أحدا
واكتشفت أنها قبلت هذا الزواج مضطرة وعلي مضض أملا في الهروب من سجن والدها
الصغير المتواضع في صعيد مصر إلي سجن أكبر في قصر كبير في بلاد الغربة..
وأمضت أمي خمس سنوات مرت عليها كالدهر وعملت فيها كخادمة في قصر كبير مليء
بالحريم والجواري ولم تكن تعرف إلي أي منهن تنتمي إلي الحريم أم إلي
الجواري ولكنها لم تطق صبرا فعادت إلي مصر وهي تحملني علي كتفها وتجر
وراءها طفلا وطفلة في الثانية والثالثة من عمرهما بعد أن حصلت علي لقب أصغر
مطلقة وهي لم تبلغ بعد التاسعة عشرة من عمرها.. وكان عليها أن تختار بين
أن تتزوج وتبدأ حياة جديدة بعد أن غاب السجان أو التضحية بكل شيء وتتفرغ
لتربية أطفالها الصغار, ولم تتردد أمي في اختيار طريق التضحية ونسيت أو
تناست انها في ريعان الشباب ومن حقها أن تسعد بشبابها وراحت ترسم حياتها
علي طريقتها الخاصة.
ووعيت علي الحياة لأول مرة لأجد نفسي أعيش مع أمي
وشقيقتي وشقيقي في شقة صغيرة متواضعة في مدينة طنطا بجوار ضريح السيد
البدوي رغم أن عائلتنا كلها كانت تعيش في صعيد مصروعرفنا بعد ذلك أن أمي
اختارت أن تهرب وتبتعد عن الجميع الذين كان بعضهم يطمع في الزواج منها
والبعض الآخر يحاول فرض وصايته عليها وانها اختارت طنطا لتكون بجوار ضريح
السيد البدوي الذي كانت تلجأ اليه مع والدتها وتحتمي به كلما ضاقت بها
الدنيا وإمعانا في الرغبة في التخفي وعقب احدي زياراتنا الأسبوعية للسيد
البدوي قررت أمي ان ترتدي النقاب ربما لمزيد من التقرب إلي الله وربما
لتحجب عنها نظرات الطامعين في جمالها وشبابها عملا بمبدأ الباب اللي يجيلك
منه الريح سده واستريح وعلي مدي عامين كاملين لم يتغير برنامجنا اليومي..
كانت أمي تصحو مبكرا لتعد لنا طعام الافطار قبل أن تخرج لتعمل في خدمة بعض
البيوت المحترمة ثم تعود بعد الظهر ووجهها ينطق بالتعب والاجهاد رغم
محاولاتها اخفاء كل ما تعاني منه خلف ابتسامتها الحلوة ثم لا تلبث أن تعد
لنا طعام الغداء ثم تنكفيء علي ماكينة خياطة كانت قد اشترتها بالتقسيط من
بنك ناصر فور مجيئنا إلي طنطا لتخيط بها ملابسنا وتحول الأمر بعد ذلك إل
ي
تفصيل وخياطة ملابس بعض الجيران الذين شعروا بحاجتنا إلي المساعدة ورفضت
أمي أن يمدوا لنا يد المساعدة المجانية.. وكانت أمي حريصة علي تعليمنا
وتثقيفنا حتي لا نقع في مستنقع الجهل والأمية الذي سقطت فيه مع اخوانها
أيام زمان.. فسعت إلي إلحاقنا بالحضانة والمدرسة واحدا بعد الآخر ورغم
أنها لا تقرأ ولا تكتب الا انها لم تنس يوما أن تنظر في كتبنا وكراساتنا
لتطمئن علي اننا انتهينا من الواجبات المدرسية علي الوجه الأكمل.. وعندما
لاحظت أمي ان شقيقي غير منتظم في مدرسته وأن كتبه وكراريسه دائما مليئة
بالكحك الأحمر حدثت مشادة عائلية قصيرة كانت نتيجتها أن أمي قررت أن تتعلم
لكي تستطيع تربيتنا أحسن تربية.. فالتحقت بأحد مكاتب محو الأمية التابعة
لأحد المساجد القريبة وبعد شهور قليلة كانت أمي تقرأ عناوين الصحف وتعليقات
المدرسين علي واجباتنا المدرسية وزاد حماسها للتعليم فالتحقت بأحد مراكز
تعليم الكبار المسائية في إحدي المدارس القريبة وتدرجت معنا في سلم التعليم
تقفز علي سلالمه قفزا وكأنها تريد أن تعوض ما فاتها.. ومرت الأيام
والسنون سريعا وأصبحت أمي اكثر اشراقا وسعادة وهي ترانا متفوقين في دراستنا
وهي تكد وتكدح صباحا ومساء من أجل
تغطية احتياجاتنا وأصبحت متعتنا
الوحيدة هي تجمعنا كل مساء حول الكتب والكراريس والواجبات المدرسية وكانت
أمي لا تخجل في طلب المساعدة مني أو من شقيقتي أو حتي من شقيقي الذي كان
يساومها مازحا علي ثمن الدرس الخصوصي.. وبمرور الأيام زادت هموم أمي
وزادت معها ابتسامتها اتساعا وكنا شغلها الشاغل فكانت عينها لا تغفل عنا
أبدا ولكننالاحظنا أنها أحياناتنفرد بنفسها وتروح في نوبة بكاء شديدة وكانت
تسارع بمسح دموعها فور احساسها باقتراب أحد منها وهي تردد المؤمن القوي
خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف.. وتكررت نوبات البكاء حتي تحولت إلي
حالات فزع تتكرر يوميا أثناء النوم وتصاحبها برودة في الأطراف كانت تفسرها
لنا بأنها مجرد كوابيس وتكتفي بأن تنادي علي أو علي شقيقتي لننام بين
أحضانها.. ولكننا شعرنا أن الأمر اكبر من ذلك فرحنا نلح عليها بزيارة
الطبيب فكانت ترفض باصرار وهي تكرر أنها تعرف مصدر تعبها وتتعامل معه
بالطريقة المناسبة.
وفي عصر أحد الأيام زارتنا صديقة لأمي قالت
إنها طبيبة أمراض نساء في المستوصف الخيري وسمعناها تتحدث مع أمي عن ضرورة
أن تتزوج خاصة انها لا تزال في ريعان شبابها وأن هذا هو العلاج البيولوجي
الفعال لتلك الحالات التي تنتابها من آن لآخر وكانت أمي تبكي بحرارة وهي
تعبر عن رفضها القاطع لفكرة الزواج وتقول ولمن أترك ابني وبنتي وانتحيت
جانبا بضيفتنا الطبيبة أحاول أن أفهم منها طبيعة مرض أمي فقالت وهي تبتسم
امكم بتدلع حاولوا تشوفوا لها عريس وبعد انصراف الطبيبة خرجت أمي لقضاء بعض
متطلبات البيت فكانت فرصة لثلاثتنا لمناقشة تلك القضية واتفقنا علي اننا
أصبحنا كبارا ونستطيع تحمل مسئولياتنا وآن الأوان كي تتزوج أمنا لتنهي
سنوات الحرمان التي عاشتها منذ طفولتها.. وعادت أمنا من الخارج لتجدنا
مجتمعين وأبلغناها برغبتنا في أن تتزوج وتسعد بحياتها وأن هذا هو حقها بعد
مشوارها الطويل من العطاء والحرمان ولكنها دخلت مسرعة إلي حجرتها وراحت
تبكي لأول مرة بصوت مسموع مزق قلوبنا وهي تصرخ مش قادرة.. مش قادرة ومرت
الأيام سريعا وزادت أمي صلابة وزاد اصرارها علي استكمال مشوار التضحية حتي
نهايته وتحسنت حالتها فلم تعد تعاودها نوبات البكاء والفزع الليلي
خاصة
بعد أن زادت ثقتها بنفسها بعد أن حصلت علي دبلوم المدارس الثانوية التجارية
نظام التعليم المسائي وبمجموع يؤهلها للالتحاق بالجامعة المفتوحة.
والتحقت
شقيقتي بكلية الآداب وأنا بكلية التجارة وبذل شقيقي جهدا خارقا لتحقيق
أمنية أمي في الالتحاق بكلية الهندسة بعد ثلاث محاولات متتالية في الثانوية
العامة رغم انه كان يعمل مساء للمساعدة في مصاريف البيت وحصل في النهاية
علي مجموع95% وكانت فرحة أمي لا توصف وهو يملأ بطاقة الرغبات ليكتب في
رغبته الأولي كلية هندسة جامعة القاهرة!! ولكن القدر لم يمهله لتحقيق
أغلي أمنيات أمي.. ففي أحد أيام الأجازة الصيفية خرج شقيقي للعب كرة
القدم مع أصدقائه في مركز شباب المدينة وبعد ساعات قليلة طرق أحدهم الباب
ليخطرنا أن شقيقي سقط أثناء اللعب واصطدم رأسه بسور المركز ونقل إلي
المستشفي للعلاج وهرعنا إلي المستشفي ليقع علينا خبر وفاته كالصاعقة وخشينا
من وقع الكارثة علي أمي التي كانت تعتبره سندنا في الحياة.. ولكنها
واجهت الأمر بحكمة نادرة فظلت صامدة شجاعة شجاعة الرجال تشد من أزرنا وتقول
إن الله استرد وديعته.. إنها إرادة الله ولا راد لقضائه حتي واريناه
الثري وعدنا إلي دارنا وقضينا ليلة سوداء كالليل فظللنا أنا وشقيقتي
ساهرتين حتي الصباح نبكي ونقرأ القرآن وأمي في حجرتها راكعة ساجدة تصلي
شاكرة لربها راضية بقضائه وقدره ودموعها تتدفق من عينيها أنهارا.
ومرت
علينا شهور كئيبة كرهنا فيها الاقامة في سكن كان شقيقنا الراحل يملؤه
ضجيجا فأصبح هو الآخر حزينا يبكي غيابه وحاولنا تغيير الشقة بأخري ولكن كيف
ونحن نكاد نغطي بالكاد مصاريف البيت والدراسة.. وقررنا أن نعمل أنا
وشقيقتي ولكن أمي بكت ورفضت رفضا قاطعا خوفا علينا من غدر الزمن.. وبعد
عامين من رحيل شقيقنا قمنا بزيارة علي غير العادة لبعض الأقرباء بالقاهرة
بحجة زيارة السيدة زينب والحسين وفهمت أنا وشقيقتي أن هناك من يطلبنا
للزواج وأن أمي لا ترغب في ابداء رأيها قبل أن تستكشف الأمر ونري ونوافق
نحن أولا.. وعدنا في مساء ذلك اليوم إلي طنطا وأمي جالسة أمامنا في
القطار شاردة ولم يكن من الصعب علينا أن نفهم أنها تفكر كيف سأقوم بتجهيز
بنتي للزواج؟؟ فحاولنا أن نهون عليها الأمر وأن نترك الأمر كله لله.. ولم
تمض غير أيام قليلة حتي طرقت بابنا صديقة أمي القديمة طبيبة المستوصف
وانتحت بأمي جانبا وتهامستا طويلا وعرفنا بعد ذلك أن أحد الأطباء في
المستوصف الذي تعمل فيه الطبيبة يريد الزواج بأمي وأسعدنا الخبر واتفقنا مع
الطبيبة علي موعد لزيارتنا, وجاء بالفعل فوجدناه رجلا شهما في الخمسين
من عمره رحلت عنه زوجته بلا أبناء منذ خمس سنوات
وكان في منتهي الأدب
والرقة والشهامة فلم يقل لأمي سوي كلمة واحدة أنتي وبناتك في عيوني الاثنين
وقفزت الدماء خجلا في وجه أمي فزادتها جمالا وبدت وكأنها فتاة في العشرين
من عمرها رغم انها كانت تخطو نحو الأربعين ووافقت بعد عناء وإلحاح منا
ولكنها طلبت التأجيل حتي زواجي أنا وشقيقتي, ورد الطبيب بكل أدب منتهي
العقل والتضحية ووافق علي الفور.. وقرأنا الفاتحة وكانت هذه هي أول مرة
يدخل الفرح فيها إلي بيتنا بعد رحيل شقيقي رحمه الله.
وتكررت
زيارات أهل القاهرة وتمت خطبتي أنا وشقيقتي في شقتنا المتواضعة في طنطا
التي شهدت رحلة كفاح أمي مع الأيام وفشلت محاولاتي أنا وشقيقتي لنقل ماكينة
الخياطة من مكانها في الصالة إلي داخل احدي الحجرات بعيدا عن عيون الضيوف
فكان رد أمي قاطعا لماذا تخفونها وقد كانت هي سبب نجاحي وسلاحي في الكفاح
وسبحان مدبر الأمور فلم نتكبد أو نلتزم بأي أعباء مالية تذكر أمام من
تقدموا للارتباط بنا وتنفست أمي الصعداء وهي تري ابنتيها وهما تستعدان
للدخول إلي بيت الزوجية.. وسعدنا نحن أيضا بذلك حتي تستطيع أمي أن تلتقط
أنفاسها وتتزوج هي الأخري بذلك الرجل الطيب الذي أرسله الله ليعوض صبرها
خيرا..
ودارت الأيام ودارت معها أمي في طاحونة العمل ومسئولية
إعدادنا للزواج وبعد شهور قليلة تحدد موعد زواجي أنا وشقيقتي وأشفقنا علي
أمي من هذا الجهد الخارق الذي تبذله فرفضت كل محاولاتنا باشراك أي من
أقربائنا في الصعيد لمساعدتنا ماديا أو حتي معنويا.. ويبدو أن أمي لم
تحتمل هذا الجهد الكبير فسقطت صريعة التعب والاجهاد لتمكث في المستشفي
يومين متتاليين ونصحها الأطباء بالراحة التامة لمدة3 شهور علي الأقل..
ولكنها كانت تستعجل الأيام لترانا في بيت العدل.. ولاحظنا أن أمي تذبل
يوما بعد يوم ودخلنا في دوامة التحاليل والأطباء دون أن نعرف لها علاجا..
وبناء علي رغبتها الجامحة تم زفافي أنا وشقيقتي في يوم واحد في طنطا
وانتقلنا مع زوجينا إلي حياتنا الجديدة أنا في القاهرة وشقيقتي في احدي
المدن الجديدة.. ورفضت أمي ان تترك شقتها القديمة لتقيم معنا ولو لفترة
مؤقتة حتي يكتمل شفاؤها.. فكنا نقضي معها اليوم بالكامل في طنطا ونعود في
المساء إلي بيوتنا وتزايدت زيارات طبيبة المستوصف وأدهشنا أن نجد حماس أمي
لمشروع الزواج الذي فتر قليلا.. مما زاد من قلقنا أنا وشقيقتي عليها
واتصلنا سرا بالطبيبة كي نستطلع الأمر فقالت إن العريس مستعجل ول
كن
امكم هي التي أجلت أي ارتباط إلي ستة شهور قادمة بدون ابداء الأسباب..
وحاولنا أن نفاتح أمنا في الأمر ولكنها كانت ترد بكلمات مقتضبة وأحيانا
تقول مازحة أما أشوف ولادكم.
واقترب عيد ميلاد أمي وكان أحد أيام
الخميس واقترح زوجانا أن نفاجئها بترتيب حفل بسيط في شقتها في طنطا ودعونا
إليه صديقتها الطبيبة وخطيبها الطبيب أيضا وقضينا ليلة رائعة كانت أمي فيها
عروس الفرح فأحطناها بكل ما تستحقه من حب واحترام وتركناها في الحادية
عشرة مساء عائدين إلي القاهرة بعد أن رفضت كالعادة دعوتنا لها للذهاب
معنا.. ووصلنا إلي القاهرة بعد منتصف الليل لنفاجأ بتليفون من صديقتنا
الطبيبة تقول إن أمنا في المستشفي.. وهرولنا عائدين إلي طنطا لنجد أمنا
في غيبوبة كاملة ومن حولها الطبيبة وخطيبها ومع اشراقة صباح اليوم التالي
كانت روح أمي قد صعدت إلي بارئها راضية مرضية.. وصدمنا بالحقيقة المروعة
فقد أكدت التقارير الطبية أن المرض اللعين كان قد تمكن من أمي منذ ستة أشهر
وهي تقاومه بشجاعة نادرة وحرصت علي اخفاء الخبر عن الجميع حتي لا تفسد
علينا حياتنا ونحن عرايس جدد وهكذا فضلت أمي أن تخوض آخر معاركها مع المرض
العضال وحدها دون مساعدة من أحد.. ومنذ ذلك اليوم ونحن نلتقي أنا وشقيقتي
وزوجانا في عيد ميلادها كل عام الذي يوافق العشرين من مارس لنحتفل معا
بعيد الأم وذكري أمي الصابرة ونضع علي قبرها وردة بيضاء دليل علي ما نحمله
لها من حب ووفاء.. رحمك الله يا أمي.
إن قصة والدتك الراحلة العظيمة,
ضخت دماء نقية في شراييني, وجعلتني أشتم عطرا لم يتسلل إلي منذ زمن..
عطر مصر, تلك الأرض الطيبة التي لا تكف زهورها عن التفتح رغم التلوث,
والنماذج السيئة التي تطغي علي حياتنا.
أمك, هي المرأة المصرية
الحقيقية, وجه الأمة, الشمعة المقدسة التي تضيء ليل الحياة بتواضع
ورقة.. هي الشمعة التي تكشف الوجه الآخر القبيح في مجتمعاتنا, قلوب
متحجرة لم تغادر بعد عصر الجاهلية, فما زلنا حتي الآن نئد البنات في
حياتهن, نحلم بالولد, السند, فنهدم البيوت العامرة, ونهرول بحثا عن
زوجة جديدة لتأتي بالولد. أما البنت ـ العار ـ فلنلق بها لأول عابر
سبيل, وليته يكون من بلد خليجي ممن يبحثون عن الفراخ الصغيرة التي لم
يكتمل نموها بعد, إرضاء لشهوات جاهلة عاجزة, فيضمها إلي حريمه
وجواريه, أتخيل والدتك إبنة الرابعة عشرة وهي وحيدة وسط هذه الأجواء,
تغتال أنوثتها قبل أن تكتمل.
سيدتي.. دعينا نطل علي طاقة الضوء
الممتدة التي حفرتها والدتك في جدران الحياة الصعبة.. دعينا نقف خاشعين
أمام هذا التحدي الكبير وهذا الاستغناء وهذا العطاء الذي لن ينتهي, وكما
قال الشاعر معروف الرصافي:
إن أمي هي التي خلقتني
بعد ربي فصرت بعض الأنام
فلها الحمد بعد حمدي إلهي
ولها الشكر في مدي الأيام
راى أ.خيرى رمضان
إن
يد أمك التي هزت فراشك بيمناها وأنت صغيرة, هي التي تحدت العالم وهزته
بيسراها, ففجرت ينابيع الذل والانكسار والظلم, وحولتها إلي أنهار من
الحب والعطاء. تعلمت وعلمت, تألمت وصبرت فغرست فيكم الأمل, وهي تبتلع
الآه في جوفها.
لكل منا في حياته كنز, قد يعثر عليه, وقد يضل
الطريق إليه, أما كنزكم الحقيقي, فهي تلك الأم الراحلة, تلك الوردة
البيضاء النائمة في قبرها بسلام واطمئنان, والوردة البيضاء تستحق حدائق
من الزهور, فلا تشغلكم الحياة عن ذكرها وزيارتها, فمثلها لا ينسي,
عليها رضوان الله وجنته الواسعة بإذن الله تعالي لما منحته لكم من نفسها
وحياتها, وما منحته لنا من أمل وثقة في أن مصر لن تجدب أبدا.. وإلي
لقاء بإذن الله.